حين تشاهدُ صورة الشّاب السّلفي الذي يقود دراجةً نارية ويسحلُ جثّة وسط تهليل ومشاركة عدد من شركائه في شوارعِ عاصمة مصر، فإنّ كلّ ما سمعت أو قرأت عن التعذيبِ والعقابِ والانتقامِ سوف يتقافزُ أمام مخيلتك . تلك الصّورة وبقدرِ ما تثيرُ من سخطٍ وخوفٍ في آن معاً، فإنها تضيف مزيداً من القتامةِ والذعرِ على صورةِ الأوضاعِ التي أنتجها الرّبيع العربي خصوصاً بعد أن تمكنتْ قوى الإسلام السياسي بمختلفِ أيدولوجياتها من إحكامِ قبضتها على السلّطةِ في معظمِ الدول التي هبتْ عليها رياح هذا الرّبيع العاصفة. وإن الانتقام من الخصومِ سيتخذ أشكالاً وممارسات شتّى، قد تتجاوز قضّية السّحل بكلّ بشاعتها. إنها صورةٌ تشيرُ إلى مرحلةٍ جديدةٍ من صراعات لا يتردد الخصوم فيها عن إستخدام كلّ الوسائل للتنكيل ببعضِهم البعض.
ما فعله الشاب السلفي آنف الذكرأو ما قام به قَبلُه أفراد من الشرطةِ المصرية في واقعةٍ مخزيةٍ أخرى، يعيدُ الى الأذهان صور جرائم التعذيب البشعة التي أوردها ميشيل فوكو في كتابه "المراقبَة والمعَاقبَة: ولادة السجن" أو تلك التي أوردها هادي العلوي في كتابه "من تاريخ التعذيب في الإسلام" وغيرها الكثير من الكتب التي امتلأت بحوادث تاريخ الإنسان الطويل مع التعذيب وأشكاله وأدواته واستخداماته البشعة وكذلك ما إرتكبته أجهزة القمع والإستبداد في معظم الدول العربية حيث كانت تتفنن في تعذيبِ معارضيها والتنكيل بهم والتمثيل بجثثِهم أو تقطيع أوصال أجسادهم وهم على قيد الحياة ولنا في ما أرتكبه نظام البعث في العراق شواهد لا تعد ولا تحصى.
ما يحدثُ في مصر وتكرار حوادث السحل فيها يؤشر الهوة والشرخ العميق الذي أصاب المجتمع المصري على الصعيد السياسي والإجتماعي لتزيد من حجم معاناته مع المشاكل الجدية والمصيرية التي تشدد من إضطرابه وتحوله إلى ساحة للصراعات بين القوى السياسية فيه، من فقر وبطالة وأمية مستشرية وجهل وتصاعد للمد الديني واستئثار بالسلطة والثروات من قبل طبقة تعيشُ منعزلة عن المجتمع وتمتص قوته وقدرته وإمكاناته بشكل يومي ومتواصل. في مجتمع كهذا فإن ردود الفعل ستكون خارج الحسابات لأنها ستمتلك خصيصة الثأر من الذي سبب كل هذه المعاناة.
والسحل، سحل الإنسان حياً كان أم ميتاً، أي جرّ جسده وسحبه بواسطةِ سيارة أو دراجة نارية أو بواسطة أشخاص أو عربات الخيول...الخ، عقوبة أنتجها العقل البشري في مرحلة من التخبط وعدم القدرة على إنتاج نظام حكم عقلاني يعطي للإنسان مكانة متميزة أو التأسيس لعدالة رصينة، فاستنإ الى التعذيب الذي كان تجسيداً لعنف السلطة وتشريعاتها، كحلّ لفرض العدالة أو تحقيقها وحيث كانتْ تمرُ بحقبٍ مختلفةٍ من الممارسات التي تزيد من ممارسة التعذيب كحلّ رادع للجريمة. فتحولتْ إلى (حقبة الفضائح الكبرى بالنسبة للعدالة التقليدية) على حد تعبير ميشيل فوكو.
أصبح السحل سلاح السلّطة في مواجهة المعارضة وقد يتحول لسلاح للمعارضة ضدّ السلّطة أو المعارضة ضد بعضها البعض حيث أصبح التعذيب المنظم سلاحاً سياسياً بإمتياز.
إننا أمام عقوبة تعكسُ الرغبة الدفينة بالإنتقام من الخصوم والتشفي بجثثهم بعد الإجهاز عليهم والتمثيل بها وكذلك فإنها تعكس قدرة المجتمعات على االحفاظ على إرثِ التعذيبِ والرغبةِ في ممارسته ما أن تسنحُ الفرصة لذلك. هذه العقوبة إن كانت تعكس قيمة ما فإنها ستعكس قيمة الإنسان وكرامته وحرمة جسده وآدميته في مجتمع مضطرب ومتناحر تسوده قيم وعقائد وآيديولوجيات لايمثل الإنسان في عرفها أية قيمة إلا بمقدار خضوعه ورضوخه للمصير الذي يتم رسمه له. إنها عقوبة تجعلنا أمام إنسان منتهك الكرامة والوجود تمارس بحقه عقوبة إجرامية إن كان حياً أو ميتاً.
حوادث السحل لم تكنْ في مصرٍ وحدها وهي ليستْ نتاجاً مصرياً خالصاً، فالعديد من بلدان عالمنا العربي شهدتْ حوادث سحل مخزية خلال فترات من تاريخ صراعاتها السياسية وإنقلاباتها العسكرية الدامية، ولعل العراق أحد هذه البلدان التي شهدتْ حوادث سحلاً وتمثيلاً بالجثث وإن بعض القوى السياسية الموالية للسلطة اتخذتها شعاراً ضد خصومها أو إسكاتهم ولعل اهزوجة (ماكو مؤامرة تفوت والحبال موجودة) التي يتم استذكارها دائماً حيت يتم الحديث عن مرحلة من مراحل تاريخ العراق المعاصر، كانت دليلاً على واقعٍ معاش خلال تلك المرحلة.
في مصر أصبحتْ ظاهرة السحل وعلى ندرتها خلال الأيام الماضية مثار ذعر وخوف و سخط عظيم. الأنباء والصور الواردة من هناك تؤكد وقوع حوادث تقشعر لها الأبدان والضمير، والمراقب لا بد وأن يصاب بحالةٍ من الذهول لهذا القدر من الإحتقار والإمتهان الموجه للإنسان ولكرامته ولحرمة جسده. سحل إنسان من قبل شرطة الدولة الإخوانية أو سحل جثة إنسان ميت من قبل شاب سلفي يعكس مقدار الحقد والثأر والرغبة بالتشفي .
السحل، ثقافة رعب ودليل على القطيعة بين فئات مجتمع يواجه أزمات خانقة وأن محاولة الحوار أو التقارب والتفاهم على قضايا مشتركة ستكون من باب الرفاهية الزائدة. السحل يعني غياب القدرة على الإعتراف بمفاهيم " نحن" و" الآخر" فنحن الأصح والأنقى والأبقى والآخر جحيم ومهلكة. السحل هو جزء من ثقافة ومنظومة التعذيب الراسخة والمنظمة التي تنتهجها السلطات الحاكمة ودأبت على ممارستها ضدّ كلّ من يختلف معها و أداة لإخضاع مَنْ تحكمهم .
هل نحن أمام حقبة جديدة، حقبة فضائحية أخرى كتلك التي أشار اليها فوكو، حقبة يستعيد فيها التعذيب سحلاً مكانته وقدرته على إثارة الذعر والخنوع في أوساط المحكومين؟ الجواب سيكون نعم لأننا أمام قوى سياسية تعمل جاهدة من أجل إخضاع الإنسان لسلطتها وجبروتها وتحويله إلى أداة طيعة بعد تجريده من حريته وتطلعاته وآماله وانها لا تتردد عن ارتكاب أفظع الجرائم من أجل سلطتها والدفاع عنها.